نشرت صحيفة «نيويوك تايمز» الأميركية اليوم الخميس، تحليلا سياسيا عن الانقسام السياسي في الداخل الأميركي بعد اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك، مؤكدة أنه حتى قبل اغتيال كيرك، الناشط المؤثر في التيار اليميني، كانت هناك مؤشرات على أزمة سياسية تلوح في الأفق داخل الولايات المتحدة. فمع تفاقم الاستقطاب السياسي وتدهور الخطاب العام، تضاءلت فرص التفاهم المشترك، بينما أخذت أعمال العنف، التي تستهدف شخصيات من اليمين واليسار على حدّ سواء، بالتزايد.
غير أن مقتل كيرك داخل حرم جامعي في ولاية يوتا، يوم الأربعاء، بعد دقائق من بدء خطابه أمام حشد من الشباب في ظهيرة مشمسة، دفع كثيرين للتساؤل عمّا إذا كانت البلاد قد دخلت مرحلة أكثر خطورة.
على مواقع التواصل، انتشرت تعليقات من نشطاء يساريين يشمتون في مقتل كيرك ويعتبرونه مستحقًا، في حين تحوّلت صدمة اليمينيين بسرعة إلى دعوات علنية للثأر و«تصفية الحساب». حتى إن البعض ذهب إلى حدّ القول إن البلاد «على شفا حرب أهلية»، أو أنه «يجب أن تكون كذلك».
هذا التصعيد أقلق خبراء حذروا من أن تسامح الأميركيين مع العنف السياسي آخذ في التزايد بوتيرة لافتة.
وقال روبرت باب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، والذي يجري استطلاعات دورية حول مواقف الأميركيين من العنف السياسي منذ اقتحام أنصار ترمب لمبنى الكابيتول في 6 يناير 2021: «نحن فعليًا داخل برميل بارود».
وأضاف: «نشهد تصاعدًا في التطرف السياسي والدعم للعنف بدرجة غير مسبوقة منذ بدأنا هذه الدراسات قبل أربع سنوات».
مقطع فيديو دموي للاغتيال
وقع إطلاق النار على كيرك، البالغ من العمر 31 عامًا، أمام الكاميرات من زوايا متعددة، وسرعان ما انتشر مقطع دموي يُظهر الدماء تنفجر من عنقه، مثيرًا صدمة واسعة. وقبل أيام فقط، كان كثير من الأميركيين قد شاهدوا مقطعًا مروّعًا آخر يُظهر شابًا يُطعن حتى الموت في مترو شارلوت بولاية نورث كارولاينا، في هجوم عشوائي.
هذه الجريمة الأخيرة اندمجت سريعًا في جدل وطني متصاعد بشأن رغبة ترمب في نشر الجيش في المدن التي يديرها الديمقراطيون لمكافحة الجريمة. وفي بلد يصف فيه الرئيس خصومه بـ«الحثالة»، ويصفه خصومه بـ«الفاشي»، بدا للكثيرين أن نسيج الحوار العام قد تمزق بلا رجعة.
كيرك، المعروف بنشاطه المكثف على وسائل التواصل، كان مشاركًا نشطًا في هذا الجدل، إذ كتب على منصة «إكس» قبل ساعات فقط من مقتله أنّه «من الضروري 100٪ تسييس جريمة شارلوت».
وقال نيوت غينغريتش، الرئيس السابق لمجلس النواب الجمهوري، في مقابلة يوم الأربعاء: «أعتقد أن لدينا حربًا ثقافية أهلية جارية». وأضاف أنه يدعم بالكامل جهود ترمب لـ«قلب الوضع القائم» في الولايات المتحدة، لكنه أقر بأن هذه الجهود «تهز السفينة».
وأوضح: «هناك خلافات عميقة حول أساسيات الحياة. والبلاد لم تجد بعد طريقة لحلها. نحن شعرنا بضغط هائل خلال فترة أوباما وبايدن، واليسار يشعر الآن بنفس الضغط من دورة ترمب. ولا أحد يعرف إلى أين سيفضي هذا كله».
في الأوساط الأكاديمية التي تتابع مدى تقبل الرأي العام للعنف السياسي – وهو مجال آخذ بالنمو بسرعة في الولايات المتحدة – ساد شعور بالكآبة يوم الأربعاء.
في أحدث استطلاع أجراه الدكتور باب في مايو، وافق نحو 39٪ من الديمقراطيين على فكرة أنه من المبرر إزاحة ترمب بالقوة من منصبه. وفي الوقت ذاته، رأى نحو ربع الجمهوريين أن من المبرر استخدام ترمب الجيش لقمع الاحتجاجات المعارضة له.
لكن غارين وينتميوت، طبيب ومدير برنامج أبحاث الوقاية من العنف في جامعة كاليفورنيا بديفيس، حذّر من أن الدخول في دوامة عنف متصاعد ليس أمرًا حتميًا.
وقال: «المهمة الآن هي ألّا نسمح للمتطرفين بسحب بقية المجتمع إلى الهاوية». وأضاف: «علينا أن نوضح رفضنا للعنف السياسي بجلاء».
قادة يمينيون يطالبون بالصلاة ثم يدعون للثأر
كان كيرك شخصية حزبية متشددة. وبعد وقت قصير من اغتياله، وصفه المحلل السياسي في قناة «MSNBC» ماثيو داود بأنه «شخصية مثيرة للانقسام» شاركت في «خطاب كراهية».
وقال داود خلال ظهوره على الهواء: «لا يمكنك أن تواصل بث هذه الأفكار والألفاظ البغيضة دون أن تتوقع أن تحدث أفعال شنيعة». وأضاف: «وهذا هو الواقع المؤسف الذي نعيشه».
رئيسة قناة «MSNBC» ريبيكا كوتلر وصفت تعليقات داود بأنها «غير حساسة وغير مقبولة».
في البداية، عبّر العديد من المعلقين اليمينيين عن صدمتهم بالدعوة إلى الصلاة. فكيرك كان مسيحيًا، ويتقاسم إيمانه هذا عدد كبير من المؤثرين على منصات التواصل. وكتب بيني جونسون، المدون الشهير والذي عمل سابقًا في منظمة «Turning Point USA» التي شارك كيرك في تأسيسها: «اركعوا وصلّوا».
لكن سرعان ما تغيّر نبرة جونسون – وغيره من رموز اليمين – عندما تأكد خبر وفاة كيرك. إذ نعت جونسون مقدمي الأخبار بأنهم «شياطين»، وقال إنه «يحترق بالغضب المقدس»، وأعلن أن كيرك «شهيد».
على قناة «فوكس نيوز»، تحدث مقدم البرامج الشهير جيسي واترز بعاطفة عن الاغتيال، مؤكدًا ضرورة الرد عليه.
وقال: «نحن مرضى، نحن حزانى، نحن غاضبون، ونحن حازمون. وسننتقم لمقتل تشارلي بالطريقة التي كان يرغب بها هو».
ثم سرد واترز سلسلة من الهجمات أو التهديدات التي نُسبت إلى أفراد من اليسار في السنوات الأخيرة: الرجل المسلح الذي أُلقي القبض عليه عام 2022 أثناء محاولته اغتيال القاضي بريت كافانو؛ إطلاق النار على موظفَين في السفارة الإسرائيلية بواشنطن في مايو؛ تخريب سيارات «تسلا» احتجاجًا على دعم إيلون ماسك لترمب؛ إطلاق النار عام 2017 على النائب الجمهوري ستيف سكاليس من لويزيانا.
وقال واترز: «سواء شئنا أم أبينا، هم في حالة حرب معنا! والسؤال: ماذا سنفعل حيال ذلك؟ إلى متى سنحتمل هذا العنف السياسي؟».
حالة حرب
حتى الآن، لم تعلن السلطات الفيدرالية أو المحلية عن هوية مشتبه به في اغتيال كيرك. لكن الناشطة اليمينية لورا لوومر سارعت إلى وصف الجريمة بأنها «عملية اغتيال احترافية» دون تقديم أي دليل.
أما الصحافي اليميني المتطرف مات فورني، المعروف بخطابه العنصري والمعادي للنساء، فقد شبّه اغتيال كيرك بـ«حريق الرايخستاغ الأميركي»، في إشارة إلى الحريق الذي استهدف البرلمان الألماني عام 1933، واستغله الحزب النازي كذريعة لتعليق الحريات واعتقال المعارضين.
وكتب فورني على منصة «إكس»: «لقد حان وقت القمع الكامل لليسار. يجب اعتقال كل سياسي ديمقراطي، وحظر الحزب».
من جهته، نشر أليكس جونز، صاحب نظريات المؤامرة المعروفة، مقطع فيديو قال فيه: «لا شك في الأمر – نحن في حالة حرب». وشاركت تشايا رايتشيك، المشهورة بحساب «Libs of TikTok»، برسالة مماثلة قالت فيها: «هذه حرب».
وعلى موقع «Patriots.win» – وهو منصة يمينية متطرفة تجمع أشد أنصار ترمب حماسة منذ سنوات – انتشرت منشورات تدعو إلى «بدء حملة إبادة للديمقراطيين».
لكن في خضم هذا التصعيد، دعا أحد أبرز رموز اليمين المتطرف، نيك فوينتيس، المعروف بعنصريته ومعاداته للسامية، أنصاره إلى ضبط النفس.
وكتب فوينتيس: «يجب أن يتوقف العنف والكراهية. أمتنا بحاجة إلى المسيح الآن أكثر من أي وقت مضى».
الميليشيات اليمينية تنتظر إشارة للتحرك
قالت روث براونشتاين، أستاذة علم الاجتماع في جامعة «جونز هوبكنز» والمتخصصة في العنف السياسي والاستقطاب، إنها تخشى أن يُستغل اغتيال شخصية محورية مثل كيرك لحشد جماعات مسلحة كانت تنتظر شرارة.
وأوضحت: «اليمين يمتلك جماعات منظمة ومدربة، بما فيها ميليشيات، تنتظر لحظة يُطلب منها التحرك للدفاع عما تعتبره الأمة». وتابعت: «كل ما يلزم هو تلميح بسيط من زعيم سياسي – سواء الرئيس أو أي شخصية مؤثرة أخرى – بأن الوقت قد حان».
ورغم أن ترمب استخدم خطابات نارية غير مسبوقة في تاريخ الرئاسة الأميركية الحديث، فقد جاء رد فعله الأولي على الحادث بضبط نسبي. إذ أمر بتنكيس الأعلام في جميع أنحاء البلاد حتى يوم الأحد.
وكتب على منصة «تروث سوشال» مشيدًا بكيرك: «إنه أسطورة»، معبرًا عن تعازيه لزوجته وعائلته.
غير أن ترمب لم يلبث أن صعّد لهجته، محمّلًا وسائل الإعلام واليسار الراديكالي مسؤولية مقتل كيرك. وقال: «لسنوات، شبّه المتطرفون اليساريون الأميركيين الرائعين مثل تشارلي بالنازيين وأسوأ القتلة والمجرمين في العالم».
وأضاف: «هذا النوع من الخطاب هو المسؤول المباشر عن الإرهاب الذي نشهده اليوم في بلادنا، ويجب أن يتوقف فورًا».
وفي منطقة ريو غراندي فالي، تحدث سيرجيو سانشيز، المذيع الإذاعي المحافظ ورئيس الحزب الجمهوري السابق في مقاطعة هيدالغو، منفعلاً والدموع في عينيه، متهمًا بعض الليبراليين بـ«تعزيز ثقافة الكراهية والعنف».
واختتم بقوله: «أنا طفل من أواخر الثمانينيات. أذكر زمنًا في أميركا كنا نعيش فيه وندع الآخرين يعيشون. لم أعد أتعرف على أمتنا بعد الآن».