محمد ولد إمام
في مساء غير ملامح السياسة في نيويورك، خرج زهران ممداني من حدود التوقع إلى فضاء الإمكان، لا بوصفه سياسياً جديداً فحسب، بل كرمز لتحول عميق في الوعي الجمعي لمدينة كانت تُعرف بصلابة منظومتها ونفوذ لوبياتها.
فوزه هذا لم يكن مجرداً من الدلالات لكنه كان لحظة تنطق بأن التنوع يمكن أن يتحول من شعار إلى واقع ملموس، وأن المدينة التي كانت تُدار من علٍ بدأت تُصغي أخيراً إلى نبض شوارعها.
في لحظة تاريخية غير مسبوقة فاز زهران ممداني، ذو الأربعة والثلاثين ربيعاً، مرشح الحزب الديمقراطي بمنصب عمدة مدينة نيويورك، مسجلاً سابقة أخرى كأصغر من يتولى هذا المنصب منذ أكثر من قرن، وأول عمدة مسلم لأكبر مدينة أمريكية.
وُلد ممداني في أوغندا لأب أكاديمي من أصول هندية وأم من جنوب آسيا، قبل أن ينتقل صغيراً إلى نيويورك، المدينة التي ستصبح لاحقاً ميدان تجربته السياسية والإنسانية. في حملته الانتخابية لم يسعَ إلى التجمل بالعبارات التقليدية ولا إلى مسايرة الخطاب السائد، بل قدم نفسه كما هو: مسلماً، مهاجراً، تقدمياً، ومؤمناً بأن العدالة الاجتماعية لا تتجزأ.
ومن بين أقواله التي وجدت صدى واسعاً قوله: «أنا أترشح لعمدة نيويورك، لا سفيراً لإسرائيل». كانت تلك الجملة كافية لتفتح عليه أبواب الهجوم من دوائر النفوذ، لكنها في الوقت نفسه جعلته رمزاً لشجاعة الموقف، وصوتاً جديداً داخل المدينة التي تُعد المعقل الأكبر للوبي الصهيوني خارج إسرائيل.
يرى ممداني أن السياسة الحقيقية لا تنفصل عن الأخلاق، وأن العدالة في غزة مثلها مثل العدالة في برونكس أو كوينز، كلاهما امتحان لضمير العالم.
رفض الاعتراف بإسرائيل دولةً «يهوديةً» خالصة، مؤكداً أن الشرعية لا تُبنى على الإبادة والتمييز، بل على المساواة.
لم يكن يخشى تسمية الأشياء بأسمائها، فوصف ما يحدث في غزة بأنه «إبادة جماعية تُنفذ بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين»، وكشف أن صناديق تقاعد المدينة تستثمر مليارات الدولارات في سندات إسرائيل وشركات السلاح، معتبراً ذلك تمويلاً للقتل على حساب فقراء نيويورك.
بهذه الصراحة الصادمة قلب موازين الخطاب السياسي في عاصمة المال والإعلام، ليعلن أن مناهضة الاحتلال ليست شأناً خارجياً بل مسألة داخلية تمس روح العدالة الأمريكية نفسها.
إن فوز زهران في قلب نيويورك يحمل كثيراً من الرمزية لمن كان له عي، فقد أحدث تصدعاً في قداسة الولاء لإسرائيل داخل الوعي الأمريكي، وفيه إشارة إلى أن ميزان الأخلاق بدأ يميل حيث يجب أن يميل.
يمثل زهران ممداني جيلاً جديداً من الساسة الذين يرون في المنصب وسيلة لا غاية، وفي السياسة ضميراً لا مهنة. إنه ابن مدينة تتغذى على التنوع، ويبدو أنه أدرك أن القيادة ليست في الصوت العالي لكنها في القدرة على الإصغاء للناس.
إن فوزه يذكر بأن التحول يبدأ حين يؤمن المواطن بأن صوته يساوي شيئاً، وأن المدينة، مهما بلغت صلابتها، لا يمكن أن تظل محصنة أمام الحقيقة إلى الأبد.
لقد جاء هذا الفوز ليقول للعالم إن العدالة لا جنسية لها، وإن الضمير يمكن أن ينتصر حتى في قلب العاصمة غير الرسمية للوبي الصهيوني.
إنه حدث يتجاوز السياسة إلى ما يشبه الإلهام الإنساني، وكأن نيويورك — المدينة التي لا تنام — قد استيقظت أخيراً على حقيقة جديدة: أن فلسطين لم تعد تهمة الخيانة، بل هي مقياس العدالة.